فصل: الحكم الثاني: هل تصح الكفارة قبل الحنث في اليمين؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}.
[4] كفارة اليمين وتحريم الخمر والميسر:

.التحليل اللفظي:

{عَقَّدتُّمُ}: عقّدتم من العقد وهو على ضربين: حسّي كعقد الحبل، ومعنوي كعقد البيع، فاليمين المنعقدة هي اليمن التي انعقد عليها العزم بالفعل أو الترك.
ومعنى عقدّتم الأيمان أي وكّدتموها ووثقّتموها بذكر اسم الله تعالى.
{تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر، والمشقات، وتعب الدنيا ونحوها ومنه قول مريم {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] وقال الفرزدق:
أبني غُدانة إنني حرّرتكم ** فوهبتكم لعطيّة بن جِعَال

أي حررتكم من الهجاء، وخصّ الرقبة من الإنسان لأنها موضع الملك فأضيف التحرير إليها.
{رِجْسٌ}: أي قذر تعافه العقول قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال رَجُسَ الرجل يرجُس إذا عمل عملًا قبيحًا. ويقال للنتن والعذِرة والأقذار رجسٌ لأنها قذارة ونجس.
{فاجتنبوه}: يعني أبعدوه واجعلوه في ناحية، فالاجتناب في اللغة: الابتعاد وقد أمر تعالى باجتناب هذه الأمور المحرمة، واقترنت بصيغة الأمر فكان ذلك على جهة التحريم القطعي.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أي راجين الفوز والفلاح بهذا الاجتناب.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا يؤاخذكم الله- أيها المؤمنون- بما جرى على ألسنتكم من لغو اليمين، الذي لم تتقصدوا فيه الكذب، أو لم تتعمد قلوبكم العزم على الحلف به، ولكن يؤاخذكم بما وثّقتموه من الأيمان فكفارة هذا النوع من الأيمان أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم، أو تكسوهم بكسوة وسط، أو تعتقوا عبدًا مملوكًا أو أمة لوجه الله، فإذا لم يقدر الشخص على الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، فليصم ثلاثة أيام متتابعة، ذلك كفارة أيمانكم أيها المؤمنون فاحفظوا أيمانكم عن الابتذال وأقلوا من الحلف لغير الضرورة.
ثم أخبر تعالى في الآية الثانية بأن الخمر، والقمار، والذبح للأصنام، والاستقسام بالأزلام «الأقداح» كل ذلك رجسٌ مستقذر لا يليق بالمؤمن فعله وهو من تزيين الشيطان للإنسان، فيجب اجتنابه والبعد عنه، لأن غرض الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، ويمنعهم عن ذكر الله وأداء الصلاة، بسبب هذه المنكرات والفواحش التي يزينها للناس، فانتهوا أيها المؤمنون عن ذلك. ثم ختم تعالى الآيات بالأمر بطاعته وطاعة رسوله، والحذر من مخالفة أوامر الله تعالى، فإذا لم ينته الإنسان عن مقارفة المعاصي فقد استحق الوعيد والعذاب الشديد يوم القيامة.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: التعبير بقوله تعالى: {فاجتنبو} أبلغ في النهي والتحريم من لفظ «حُرّم» لأن معناه البعد عنه بالكلية فهو مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] لأن القرب منه إذا كان حرامًا فيكون الفعل محرمًا من باب أولى فقوله: {فاجتنبو} معناه كونوا في جانبٍ آخر منه، وكلّما كانت الحرمة شديدة جاء التعبير بلفظ الاجتناب كما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ومعلوم أنه ليس هناك ذنب أعظم من الإشراك بالله فتنبه له فإنه دقيق.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}؟ استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا، فقد خرج عن صيغته الأصلية إلى معنى الأمر أي انتهوا عن ذلك.
قال الفرّاء: ردّد عليّ أعرابي: هل أنتَ ساكتٌ؟ وهو يريد: اسكت، اسكت. أقول: ومما يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه لما سمع الآية: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.
اللطيفة الثانية: لم يُذكر في القرآن الكريم تعليلُ الأحكام إلاّ بالإيجاز، أمّا هنا فقد ذكر بالإطناب والتفصيل، وذكرت فيه الأسباب لتحريم الخمر والميسر بالإسهاب، منها: إلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصدّ عن ذكر الله، وشغل المؤمنين عن الصلاة، كما وصفت الخمر والميسر بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان إلخ وكل ذلك ليشير إلى الضرر العظيم، والخطر الجسيم، من جراء اقتراف هاتين الرذيلتين «جريمة القمار» و«جريمة تناول المسكرات» استمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}؟
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} ظاهر اللفظ الإخبار، وحقيقته الوعيد والتهديد، فكأنه تعالى يقول: ليس على رسولي إلا أن يبلّغكم وحسابكم عليّ يوم الدين {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25-26].

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هي أنواع اليمين؟

قسم العلماء اليمين إلى ثلاثة أقسام: «لغو، ومنعقدة، وغموس».
فأما اللغو: فهي اليمين التي لا يتعلق بها حكم، وقد ورد عن عائشة أنها قالت: اللغو هو كلام الرجل: لا والله، وبلى والله، روي ذلك عنها مرفوعًا.
وروي عن ابن عباس في لغو اليمين أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، أي أن يحلف على ظنه واعتقاده فيتبيّن الأمر خلافه، وقد تقدم هذا في سورة البقرة.
وأمّا المنعقدة: فهي أن يحلف على أمرٍ في المستقبل بأن يفعله أو لا يفعله ثم يحنث في يمينه، فهذه يجب فيها الكفارة كما فصّلها القرآن الكريم.
وأما الغموس: فهي اليمين التي يتعمد فيها الإنسان الكذب كقوله: والله ما فعلت كذا وقد فعله، أو والله لقد فعلتُ كذا ولم يفعله، وسمّي غموسًا لأنه يغمس صاحبه في نار جهنم، وذنبه أعظم من أن يكفّر؛ لأنه استهان بعظمة الله جلّ وعلا حين حلف كاذبًا. روى الدارقطني في «سننه» عن علقمة عن عبد الله أنه قال: الأيمان أربعة: يمينان يُكفّران، ويمينان لا يُكفّران، فاليمينان اللذان يُكفّران فالرجلُ الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل الذي يقول: والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يُكفّران فالرجل يحلف والله ما فعلتُ كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلتُ كذا وكذا ولم يفعله.
قال القرطبي: وقد اختلف في اليمين الغموس، فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكرٍ وخديعةٍ وكذب فلا تنعقد، ولا كفارة فيها.
وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة. والصحيح الأول، قال ابن المنذر: وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال أحمد: وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة.
أخرج البخاري في «صحيحه» «أن أعرابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ هو فيها كاذب».

.الحكم الثاني: هل تصح الكفارة قبل الحنث في اليمين؟

ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالًا، وأمّا إذا كانت صومًا فلا يجوز حتى يتحقق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ...} حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين من غير ذكر الحنث، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وقاسوها أيضًا على إخراج الزكاة قبل الحول.
وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلاّ بعد الحنث ووجوب التكفير، واستدلوا بحديث «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير» وهذا القول هو مشهور مذهب مالك رحمه الله.
وذهب الحنفية إلى عدم جواز إخراج الكفارة قبل الحنث، وقالوا: إن في الآية إضمار الحنث فكأنه تعالى يقول: فكفارته إذا حنثتم، وهو على حد قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي إذا أفطر في رمضان، واستدلوا بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
واستدلوا أيضًا بالمعقول فقالوا: إن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم، وإذا لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يرفع فلا معنى للكفارة.
واستدلوا أيضًا بأن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ اعتبارًا بالصلوات وسائر العبادات، وهذا القول في رواية أشهب عن مالك رحمه الله.

.الحكم الثالث: هل يشترط التتابع في صيام كفارة اليمين؟

نصت الآية الكريمة على جواز الصيام عند العجز عن الإطعام، وقد اختلف الفقهاء في الصيام هل يشترط فيه التتابع أم يجزئه التفريق؟
أ- فذهب الحنفية إلى اشتراط التتابع لقراءة ابن مسعود {فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات} وهو مروي عن عباس ومجاهد.
ب- وذهب الشافعية إلى عدم اشتراط التتابع، وأنه يجزئ التفريق فيها وهو قول مالك.
قال القرطبي: «فإذا لم يجد الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة صيام لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} قرأها ابن مسعود {متتابعات} فيقيّد بها المطلق، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي. واختاره المزني قياسًا على الصوم في «كفارة الظهار».
وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريقُ، لأن التتابع صفة لا تجب إلاّ بنص، أو قياس منصوص وقد عُدما»
.

.الحكم الرابع: هل الخمر تتناول جميع المسكرات؟

الخمر اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة هذا رأي جمهور الفقهاء، وقال الحنفية: الخمر خاصٌ بما كان من ماء العنب النِّيء إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرًا وإن كان حرامًا. والجمهور على أن الخمر ليست خاصة بعصير العنب، فغير ماء العنب حرام بالنص، وكل مسكر خمر لما روي عن أنس أنه قال: «حرمت الخمر وهي من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة» والجميع متفقون على حرمة كل مسكر والخلاف يكاد يكون شكليًا وقد تقدم في سورة البقرة.

.الحكم الخامس: هل الخمر نجسة أم أنها حرام فقط؟

فهم العلماء من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك «المزني» صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من فقهاء الحنفية فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرّم إنما هو شربها، وقالوا لا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس!
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللغة القذر والنجاسة، وقد دلّ على نجاستها أيضًا ما روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله: إنّا نمر في سفرنا على أهل كتاب يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر فماذا نصنع؟ فأمرهم عليه السلام بعدم الأكل أو الشرب منها، فإن لم يجدوا غيرها غسلوها ثم استعملوها.
فالأمر بالغسل يدل على عدم الطهارت إذ لو كانت طاهرة غير متنجسة لما أمرهم بغسلها.